فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثالثة:
قدم الآفة في الآلة على الآفة في القوة، لأن الآفة في القوة تزول وتطرأ، والآفة في الآلة إذ طرأت لا تزول، فإن الأعمى لا يعود بصيرًا فالعذر في محل الآلة أتم.
المسألة الرابعة:
قدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال، والأعرج إن حضر راكبًا أو بطريق آخر يقدر على القتال بالرمي وغيره. اهـ.

.قال القرطبي:

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فيه أربع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} أي قل لهؤلاء الذين تخلّفوا عن الحديبِية {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن أبي لَيْلَى وعطاء الخراساني: هم فارس.
وقال كعب والحسن وعبد الرحمن بن أبي لَيْلَى: الروم.
وعن الحسن أيضًا: فارس والروم.
وقال ابن جُبَير: هوازن وثقِيف.
وقال عكرمة: هوازن.
وقال قتادة: هوازن وغَطَفان يوم حُنين.
وقال الزُّهْري ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مُسَيْلِمة.
وقال رافع بن خَديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم مَن هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم.
وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعدُ.
وظاهر الآية يردّه.
الثانية في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم.
وأما قول عكرمة وقتادة إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه السلام، لأنه قال: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} فدلّ على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
الزَّمَخْشَرِي: فإن صحّ ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبدًا ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدِّين.
أو على قول مجاهد كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوّعين لا نصيب لهم في المغنم.
(والله أعلم).
الثالثة قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجِزية، وهو معطوف على {تُقَاتِلُونَهُمْ} أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما.
وفي حرف أُبَيّ {أَوْ يُسْلِمُوا} بمعنى حتى يُسْلِمُوا، كما تقول: كُلْ أو تشبع، أي حتى تشبع.
قال:
فقلت له لا تَبْكِ عَيْنُك إنما ** نحاوِل مُلْكًا أو نموت فنُعذَرا

وقال الزجاج: قال: {أَوْ يُسْلِمُونَ} لأن المعنى أو هم يسلِمون من غير قتال.
وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب.
الرابعة قوله تعالى: {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْرًا حَسَنًا} الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
{وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} عام الحُدَيْبِيَة.
{يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهو عذاب النار.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
قال ابن عباس لما نزلت: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قال أهل الزَّمانة: كيف بنا يا رسول اللّه؟ فنزلت: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم.
وقد مضى في (براءة) وغيرها الكلام فيه مُبَّينًا.
والَعَرج: آفة تعرض لرِجْل واحدة، وإذا كان ذلك مؤثّرًا فخلل الرّجْلين أولى أن يؤثر.
وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم.
أى من شاء أن يسير منهم معكم إلي خّيْبَرَ فليفعل {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمره.
{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} قرأ نافع وابن عامر {نُدخْلهُ} بالنون على التعظيم.
الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدّم اسم اللّه أوّلا.
{وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب}.
كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذم وإشعارًا بشناعة التخلف {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري بنو حنيفة مسيلمة وقومه أهل اليمامة، وعليه جماعة، وفي رواية عنه زيادة أهل الردة وروي ذلك عن الكلبي، وعن رافع بن خديج إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، وعن عطاء بن أبي رباح ومجاهد في رواية وعطاء الخراساني وابن أبي ليلى هم الفرس، وأخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل وغيرهما عن ابن عباس، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: دعا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لقتال فارس أعراب المدينة جهينة ومزينة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم للخروج إلى مكة.
وقال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين. وفي رواية ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة التصريح بثقيف مع هوازن.
وفي رواية الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: هم هوازن وبنو حنيفة، وقال كعب: هم الروم الذي خرج إليهم صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة موتة.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن الحسن قال: هم فارس والروم، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: البارز يعني الأكراد كما في (الدر المنثور).
وأخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير عن مجاهد قال: أعراب فارس وأكراد العجم، وظاهر العطف أن أكراد العجم ليسوا من أعراب فارس، وظاهر إضافا أكراد إلى العجم يشعر بأن من الأكراد ما يقال لهم أكراد العرب، ولا نعرف هذا التقسيم وإنما نعرف جيلًا من الناس يقال لهم أكراد من غير إضافة إلى عرب أو عجم، وللعلماء اختلاف في كونهم في الأصل عربًا أو غيرهم فقيل: ليسوا من العرب، وقيل منهم، قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان في ترجمة المهلب بن أبي صفرة ما نصه: حكى أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه القصد والأمم في أنساب العرب والعجم أن الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم فسموا الأكراد، وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله ابن عبد البر:
لعمرك ما الأكراد أبناء فارس ** ولكنه كرد بن عمرو بن عامر

انتهى، وفي (القاموس) الكرد بالضم جيل من الناس معروف والجمع أكراد وجدهم كرد بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء انتهى، وعامر هذا من العرب بلا شبهة فإنه ابن حارثة الغطريق بن امرء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ويقال له الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويسمى عامرًا وهو عند الأكثر ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، وقيل: من ولد هود، وقيل: هو هود نفسه، وقيل: ابن أخيه، وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل، والذي رجحه ابن حجر أن قبائل اليمن كلها ومنها قبيلة مزيقيا من ولد إسماعيل عليه السلام، ويدل له تبويب البخاري باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ذكر ذلك السيد نور الدين على السمهودي في تاريخ المدينة، وفيه أن الأنصار الأوس والخزرج من أولاد ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا المذكور وكان له ثلاثة عشر ولدًا ذكورًا منهم ثعلبة المذكور وحارثة والد خزاعة وجفنة والد غسان ووداعة وأبو حارثة وعوف وكعب ومالك وعمران وكرد كما في (براءة) انتهى.
وفائدة الخلاف تظهر في أمور منها الكفاءة في النكاح والعامة لا يعدونهم من العرب فلا تغفل، والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقيا وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب وليس من أولاد عمرو المذكور إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلًا، وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال: إنهم من ذرية خالد بن الوليد، وآخرون يقال: إنهم من ذرية معاذ بن جبل؛ وآخرون يقال: إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب، وآخرون يقال: إنهم من بني أمية ولا يصح عندي من ذلك شيء بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البرزنجية لا شك في صحة نسبهم وكذا في جلالة حسبهم، وبالجملة الأكراد مشهور باليأس وقد كان منهم كثير من أهل الفضل بل ثبت لبعضهم الصحبة، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في حرف الجيم: جابان والد ميمون روى ابن منده من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن أبي خلدة سمعت ميمون بن جابان الكردي عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة حتى بلغ عشرًا وذكر الحديث، وقد أخرج نحوه الطبراني في المعجم الصغير عن ميمون الكردي عن أبيه أيضًا وهو أتم منه ولفظه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان وأيما رجل استدان دينًا لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق ويكنى ميمون هذا بأبي بصير بفتح الموحدة، وقيل: بالنون، وهو كما في التقريب مقبول، هذا وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.
وقال أبو حيان: الذي أقوله إن هذه الأقوال تمثيلات من قائلها لا تعيين القوم، وهذا وإن حصل به الجمع بين تلك الأقوال خلاف الظاهر، وقوله تعالى: {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} على معنى يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، فأو للتنويع والحصر لا للشك وهو كثير، ويدل لذلك قراءة أبي وزيد بن علي {أَوْ} بحذف النون لأن ذلك للناصب وهو يقتضي أن أو بمعنى إلا أي إلا أن يسلموا فيفيد الحصر أو بمعنى إلى أي إلى أن يسلموا، والغاية تقتضي أنه لا ينقطع القتال بغير الإسلام فيفيده أيضًا كما قيل: والجملة مستأنفة للتعليل كما في قولك: سيدعوك الأمير يكرمك أو يكبت عدوك، قال في (الكشف): ولا يجوز أن تكون صفة لقوم لأنهم دعوا إلى قتال القوم لا أنهم دعوا إلى قوم موصوف بالمقاتلة أو الإسلام.
وجوز بعضهم كونها حالية وحاله كحال الوصفية، وأصل الكلام ستدعون إلى قوم أولي بأس لتقاتلوهم أو يسلموا فعدل إلى الاستئناف لأنه أعظم الوصلين، ثم فيه أنهم فعلوا ذلك وحصلوا الغرض فهو يخبر عنه واقعًا.
والاعتراض بأنه يلزم أن لا ينفك الوجود عن أحدهما لصدق إخباره تعالى ونحن نرى الانفكاك بأن يتركوا سدى أو بالهدنة فينبغي أن يؤول بأنه في معنى الأمر على ما في أمالي ابن الحاجب غير سديد لأن القوم مخصوصون لا عموم فيهم، وكان الواقع أنهم قوتلوا إلى أن أسلموا سواء فسر القوم ببني حنيفة أو بثقيف وهوازن أو فارس والروم على أن الإسلام الانقياد فما انفك الوجود عن أحدهما بل وقعا، وأما امتناع الانفكاك فليس من مقتضى الوضع ولا الاستعمال بل ذلك في الكلام الاستدلالي قد يتفق.
وأطال الطيبي الكلام في هذا المقام ثم قال: الذي يقتضيه المقام ما ذهب إليه صاحب التحبير من أن {أَوْ يُسْلِمُونَ} عطف على {تقاتلونهم} أما على الظاهر أو بتقديرهم يسلمون ليكون من عطف الاسمية على الفعلية وحينئذٍ تكون المناسبة أكثر إذ تخرج الجملة إلى باب الكناية، والمعنى تقاتلونهم أو لا تقاتلونهم لأنهم يسلمون، وقد وضع فيه {أَوْ يُسْلِمُونَ} موضع أولًا تقاتلونهم لأنهم إذا أسلموا سقط عنهم قتالهم ضرورة، والاستدعاء عليه ليس إلا للاختبار، و{أَوْ} للترديد على سبيل الاستعارة وفيه ما فيه، وشاع الاستدلال بالآية على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ووجه ذلك الإمام فقال: الداعي في قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ} لا يخلو من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأئمة الأربعة أو من بعدهم لا يجوز الأول لقوله سبحانه: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15] الخ ولا أن يكون عليًا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه لأنه إنما قاتل البغاة والخوارج وتلك المقاتلة للإسلام لقوله عز وجل: {أَوْ يُسْلِمُونَ} ولا من ملك بعدهم لأنهم عندنا على الخطأ وعند الشيعة على الكفر ولماب طلت الأقسام تعين أن يكون المراد بالداعي أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم، ثم إنه تعالى أوجب طاعته وأورعد على مخالفته وذلك يقتضي إمامته وأي الثلاثة كان ثبت المطلوب، أما إذا كان أبا بكر فظاهر، وأما إذا كان عمر أو عثمان فلأن إمامته فرع إمامته رضي الله تعالى عنه.
وتعقب بأن الداعي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشعر بذلك السين قوله: لا يجوز لقوله سبحانه: لن {تَتَّبِعُونَا} الخ فيه أن {لَنْ} لا تفيد التأبيد على الصحيح وظاهر السياق يدل على أن المراد به لن تتبعونا في الانطلاق إلى خيبر كما سمعت عن محيى السنة أو هو مقيد بما روى عن مجاهد أو بما حكى عن بعض، وقال أبو حيان: القول بأنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بصحيح فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة وحضروا حرب هوازن معه عليه الصلاة والسلام وحضروا معه صلى الله عليه وسلم أيضًا في سفرة تبوك انتهى، ولا يخفى أن هذا إذا صح ينفي حمل النفي على التأييد.
ومن الشيعة من اقتصر في رد الاستدلال على الدعوة في تبوك.
وتعقب بأنه لم يقع فيها ما أخبر الله تعالى به في قوله سبحانه: {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} ومنهم من زعم أن الداعي علي كرم الله تعالى وجهه وزعم كفر البغاة والخوارج عليه رضي الله تعالى عنه وأنه لو سلم إسلامهم يراد بالإسلام في الآية الانقياد إلى الطاعة وموالاة الأمير، وفيه ما لا يخفى، والانصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلًا على إمامة الصديق رضي الله تعالى عنهإلا إن صح خبر مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة ونحوهم ودون ذلك خرط القتاد، ونفى بعضهم صحة كون المراد بالقوم فارسًا والروم لأن المراد في قوله تعالى: {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} على ما سمعت وفارس مجوس والروم نصارى فلا يتعين فيهم أحد الأمرين من المقاتلة والإسلام إذ يقبل منهم الجزية، وكذا اليهود ومشركو العجم والصابئة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال: يتعين كونهم مرتدين أو مشركي العرب لأنهم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومثل مشركي العرب مشركو العجم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه فعنده لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، وأنت تعلم أن من فسر القوم بذلك يفسر الإسلام بالانقياد وهو يكون بقبول الجزية فلا يتم له أمر النفي فلا تغفل {فَإِن تُطِيعُواْ} الدعي فيما دعاكم إليه {يُؤْتِكُمُ الله أَجْرًا حَسَنًا} هو على ما قيل الغنيمة في الدنيا والجنة في الأخرى {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} عن الدعوة {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ} في الحديبية {يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} لتضاعف جرمكم، وهذا التعذيب قال في (البحر): يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة، ويحتمل عندي وهو الأوفق بما قبله على ما قيل كونه فيهما ولا بأس بكون كل من الإيتاء والتعذيب في الآخرة بل لعله المتبادر لكثرة استعمالهما في ذلك، ولا يحسن كون الأمرين في الدنيا ولا كون الأول في الآخرة أو فيها وفي الدنيا والثاني في الدنيا فقط.